فصل: مدة سلطنة الملك المظفر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


ولما كان يوم تاسع عشرين شعبان من سنة أربع وعشرين وثمانمائة خيم السلطان الملك المظفر أحمد بن المؤيد بالسلطان الملك الظاهر ططر وأدخل المظفر إلى أمه خوند سعادات وكان ططر قد تزوجها حسبما ذكرناه فمن يوم خلع ابنها المظفر لم يدخل إليها ططر ثم طلقها بعد ذلك‏.‏

وكان

 مدة سلطنة الملك المظفر

من يوم جلوسه على تخت الملك وهو يوم موت أبيه الملك المؤيد شيخ إلى أن خلع في هذا اليوم سبعة أشهر وعشرين يومًا‏.‏

وعاد المظفر صحبة الملك الظاهر ططر إلى الديار المصرية وأقام بقلعة الجبل مدة ثم أخرج هو وأخوه إبراهيم ابن الملك المؤيد إلى سجن الإسكندرية فسجنا بها إلى أن مات الملك المظفر أحمد هذا في الثغر المذكور بالطاعون في ليلة الخميس آخر جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة في سلطنة الملك الأشرف برسباي ومات أخوه إبراهيم بعده بمدة يسيرة بالطاعون أيضًا ودفنا بالإسكندرية ثم نقلا إلى القاهرة وذفنا بالقبة من الجامع المؤيدي داخل باب زويلة‏.‏

ولم يكن للملك المظفر أمر في السلطنة لتشكر أفعاله أو تذم لعدم تحكمه في الدولة وأيضًا لصغر سنه فإنه مات بعد خلعه بسنين وهو لم يبلغ الحلم‏.‏

وأما أخوه إبراهيم فإنه كان أصغر منه وكانت أمه أم ولد جركسية تسمى قطلباي تزوجها الأمير إينال الجكمي بعد موت الملك المؤيد وماتت عنده‏.‏

انتهى والله أعلم‏.‏

السلطان الملك الظاهر سيف الدين أبو الفتح ططر‏.‏

تسلطن بعد خلع السلطان الملك المظفر أحمد ابن الملك المؤيد شيخ في يوم الجمعة تاسع عشرين شعبان سنة أربع وعشرين وثمانمائة بقلعة دمشق وكان الموافق لهذا اليوم يوم نوروز القبط بمصر ولبس خلعة السلطنة من قصر قلعة دمشق وركب بشعار السلطنة وأبهة الملك ولقب بالملك الظاهر ططر وذلك بعد أن ثبت خلع الملك المظفر‏.‏

وحضر الخليفة المعتضد بالله داود والقضاة بقلعة دمشق وبايعوه بالسلطنة بحضرة الملأ من الأمراء والخاصكية بعد أن سألهم الخليفة في قيامه في السلطنة فقالوا الجميع‏:‏ نحن راضون بالأمير القبير ططر‏.‏

وتم أمره في السلطنة وقبلت الأمراء الأرض بين يديه وحملت القبة والطير على رأسه وخطب له على منابر دمشق من يومه‏.‏

والملك الظاهر هذا هو السلطان الثلاثون من ملوك الترك بالديار المصرية والسادس من الجراكسة وأولادهم‏.‏

قال المقريزي رحمه الله‏:‏ كان جاركسي الجنس يعني عن الملك الظاهر ططر رباه بعض التجار وعلمه شيئًا من القرآن وفقه الحنفية وقدم به إلى القاهرة في سنة إحدى وثمانمائة وهو صبي فدل عليه الأمير قاني باي لقرابته به وسأل السلطان الملك الظاهر برقوق فيه حتى أخذه من تاجره‏.‏

ومات السلطان قبل أن يصرف ثمنه فوزن الأمير الكبير أيتمس ثمنه اثني عشر ألف درهم ونزله في جملة مماليك الملك الظاهر في الطباق ونشأ بينهم‏.‏

وكان الملك الناصر أعتقه فلم يزل في جملة مماليك الطباق حتى عاد السلطان الملك الناصر فرج إلى الملك بعد أخيه المنصور عبد العزيز فأخرج له الخيل وأعطاه إقطاعًا في الحلقة فانضم على الأمير نوروز الحافظي وتقلب معه في تلك الفتن انتهى كلام المقريزي باختصار‏.‏

قلت‏:‏ هذا هو الخباط بعينه ولم أقف على هذا النقل إلا من خطه بعد موته ولم أسمعه من لفظه فإن هذا القول يستحيا من ذكره فأما قوله اشتراه الملك الظاهر برقوق من تاجره فمسلم غير أنه قبل سنة إحدى وثمانمائة وأنه لم يعط ثمنه فيمكن‏.‏

وأما قوله وأعتقه الملك الناصر فرج فهذا القول لم يقله أحد غيره وبإجماع المماليك الظاهرية أن الملك الظاهر برقوق أعتقه وأخرج له الخيل والقماش في عدة كبيرة من المماليك منهم جماعة كبرة في قيد الحياة إلى يومنا هذا‏.‏

ثم أخرج الملك الظاهر خرجًا آخر من المماليك بعد ذلك قبل موته من جملتهم الملك الأشرف برسباي الدقماقي والملك الظاهر جقمق العلائي وغيره‏.‏

وكانت عادة برقوق أنه لا يخرج لمماليكه الجلبان خيلًا إلا بعد إقامتهم في الأطباق مدة سنين وأنه لا يخرج في سنة واحدة خرجين وإنما كان يجرج في كل مدة طويلة خرجًا من مماليكه ثم يتبعه بعد ذلك بمدة طويلة آخر وهذه كانت عادة ملوك السلف فعلى هذا يكون مشترى ططرهذا قبل سنة إحدى وثمانماثة بسنين‏.‏

ولما أراد الملك الظاهر عتق ططر المذكور عرضه قي جملة من عرض من مماليك الطباق الكتابية وكان ططر قصير القامة فاعتقد الظاهر أنه صغير فرده إلى الطبقة فيمن رد من صغارالمماليك وكان الأمير جرباش الشيخي الظاهري رأس نوبة واقفًا فمسك ططر من كتفه وقال‏:‏ يا مولانا السلطان هذا فقيه طالب علم قرناص يستأهل الخير فأمر له الملك الظاهر بالخيل وكتب عتاقته أمام السلطان الملك الظاهر سويدان المقري فكان ططر في أيام إمرته وبعد سلطنته كلما رأى الناصر محمد ابن جرباش الشيخي يترحم على والده ويقول‏:‏ لم يعتقني الملك الظاهر برقوق إلا بسفارة الأمير جرباش الشيخي رحمه الله وأحسن إلى ولد المذكور‏.‏

وأما قوله وأقام ططر في الطبقة حتى عاد الملك الناصر إلى ملكه بعد أخيه المنصور عبد العزيز فهذا يكون فى سنة ثمان وثمانمائة وهذه مجازفة لا يدري معناها فإن ططر كان يوم ذاك من رؤوس الفتن مرشحًا للإمرة وولاية الأعمال بل كان قبل ذلك في واقعة تيمورلنك في سنة ثلاث وثمانمائة من أعيان القوم الذين أرادوا سلطنة الشيخ لاجين الجاركسي بالقاهرة وعادوا إلى مصر وهو يوم ذاك يخشى شره‏.‏

وأيضًا إنه في سنة ثمان المذكورة كان برسباي الدقماقي أعني الملك الأشرف صار من جملة الخاصكية السقاة الخاص الأعيان وكان من جملة أصحاب ططر الصغار ممن ينتمي إليه وبسفارته آتصل إلى ما ذكرناه من الوظيفة وغيرها ولا زال على ذلك إلى أن شفع فيه ططر بعد أن حبسه الملك المؤيد بالمرقب وأخرجه إلى دمشق كل ذلك وططر مقدم عليه وعلى غيره من أعيان الظاهرية ويسمونه أغاة من تلك الأيام فلو كان كما قاله المقريزي من أن الملك الناصر فرج أعتقه في سنة ثمان لكان ططر من أصاغر المماليك الناصرية فإن الذين أعتقهم الملك الناصر ممن ورثهم من أبيه وهم أول خرج أخرجه جماعة كبيرة مثل الملك الأشرف إينال العلائي سلطان زماننا والأمير طوخ من تمراز أمير مجلس زماننا والآمير يونس العلائي أحد مقدمي الألوف في زماننا فيكون هؤلاء بالنسبة إلى ططر قرانيص وأكابر وقدماء هجرة فهذا القول لا يقوله إلا من ليس له خبرة بقواعد السلاطين ولا يعرف ما الملوك عليه بالكلية‏.‏

ولولا أن المقريزي ذكر هذه المقالة في عدة كتب من مصنفاته ما كنت أتعرض إلى جواب ذلك فإن هذا شيء لا يشك فيه أحد ولم يختلف فيه اثنان‏.‏

غير أني أعذره فيما نقل فإنه كان بمعزل عن الدولة وينقل أخبار الأتراك عن الآحاد فكان يقع له من هذا وأشباهه أوهام كثيرة نبهته على كثير منها فأصلحها معتمدًا على قولي وها هي مصلوحة بخطه في مظنات الأتراك وأسمائهم ووقائعهم‏.‏

انتهى‏.‏

واستمر الملك الظاهر ططر بقلعة دمشق وعمل الخدمة السلطانية بها في يوم الاثنين ثالث شهر رمضان وخلع على الخليفة والقضاة باستمرارهم وعلى أعيان الأمراء على عادتهم‏.‏

ثم خلع على الأمير طرباي الظاهري نائب غزة كان في دولة الملك المؤيد بعد قدومه من عند قرا يوسف باستقراره حاجب الحجاب بالديار المصرية عوضًا عن إينال الآرغزي المقدم ذكره وعلى الأمير برسباي الدقماقي نائب طرابلس كان وكان بطالًا بدمشق باستقراره دوادارًا كبيرًا عوضًا عن الأمير علي باي المؤيدي بحكم القبض عليه‏.‏

وأنعم الأمير يشبك الجكمي الدوادار الثاني كان وهو أيضًا ممن قدم من بلاد الشرق بآستقراره أمير آخور كبيرًا عوضًا عن تغري بردي المؤيدي المنتقل إلى نيابة حلب‏.‏

ثم خلع بعد ذلك على الأمير بيبغا المظفري الظاهري أمير مجلس باستقراره أمير سلاح عوضًا عن الأمير إينال الجكمي بحكم القبض عليه‏.‏

وأنعم على الأمير قجق العيساوي الظاهري حاجب الحجاب كان في الدولة المؤيدية باستقراره أمير مجلس عوضًا عن بيبغا المظفري‏.‏

وخلع على الأمير قصروه من تمراز الظاهري باستقراره رأس نوبة النوب عوضًا عن يشبك أنالي المؤيدي بحكم القبض عليه أيضًا ثم أنعم على جماعة كبيرة بتقادم ألوف بالديار المصرية مثل الأمير أزبك المحمدي الظاهري إني برسبغا الدوادار ومثل الأمير تغري بردي المحمودي الناصري ومثل الأمير قرمش الأعور الظاهري وغيرهم‏.‏

وأنعم على جماعة من مماليكه وحواشيه بإمرة طبلخانات وعشرات منهم‏:‏ صهره البدري حسن بن سودون الفقيه أنعم عليه بأمرة طبلخاناه عوضًا عن مغلباي الساقي المؤيدي بحكم القبض عليه وأنعم على الأمير قرقماس الشعباني الناصري بإمرة طبلخاناه واستقر به دوادارًا ثانيًا وعلى الأمير قانصوه النوروزي أيضًا بإمرة طبلخاناه وجعله من جملة رؤوس النوب وعلى رأس نوبته الثاني قاني باي الأبو بكري الناصري البهلوان بإمرة طبلخاناه وجعله أيضًا من جملة رؤوس النوب وعلى فارس دواداره الثاني بإمرة طبلخاناه‏.‏

وأنعم على مشده يشبك السودوني باستقراره شاد الشراب خاناه وعلى أمير آخورة بردبك السيفي يشبك بن أزدمر باستقراره أمير آخور ثانيًا وعلى جماعة أخر من حواشيه ومماليكه‏.‏

وجعل جميع مماليكه الذين كانوا بخدمته قبل سلطنته خاصكية وأنعم على بعضهم بعدة وظائف‏.‏

ثم أمر السلطان الملك الظاهر فكتب بسلطنته إلى مصر وأعمالها وإلى البلاد الحلبية والسواحل والثغور وإلى نواب الأقطار وحملت إليهم التشاريف والتقاليد بولايتهم على عادتهم وهم‏:‏ الأمير تغري بردي المؤيدي المعروف بأخي قصروه نائب حلب والأمير تنبك البجاسي نائب طرابلس والأمير جارقطلو الظاهري نائب حماة والأمير قطلوبغا التنمي نائب صفد والأمير يونس الركني نائب غزة‏.‏

ثم خلع على الأمير تنبك ميق نائب الشام باستمراره على كفالته وعلى الأمير برسباي الحمزاوي الناصري باستقراره حاجب حجاب دمشق وعلى الأمير أركماس الظاهري ثم أخذ الملك الظاهر في تمهيد أمور دمشق والبلاد الشامية إلى أن تم له ذلك فبرز من دمشق بأمرائه وعساكره في يوم الاثنين سابع عشر شهر رمضان من سنة أربع وعشرين وثمانمائة يريد الديار المصرية‏.‏

هذا ما كان من أمر الملك الظاهر ططر بالبلاد الشامية‏.‏

وأما أخبار الديار المصرية في غيبته فإنه لما سافر الأمير ططر بالسلطان الملك المظفر وعساكره من الريدانية استقل بالحكم بين الناس الأمير جقمق العلائي إلى أن حضر الأمير قاني باي الحمزاوي من بلاد الصعيد في يوم السبت حادي عشرين جمادى الأولى وحكم في نيابة الغيبة وأرسل إلى الأمير جقمق بالكف عن الحكم بين الناس وخاشنه في الكلام فانكفت يد الأمير جقمق أخي جاركس المصارع عن الحكم وكانت سيرته جيدة في أحكامه‏.‏

ثم قدم الخبر على الأمير قاني باي الحمزاوي بدخول السلطان الملك المظفر إلى دمشق وقبضه على القرمشي وغيره فدقت البشائر لذلك بالقاهرة ثلاثة أيام وزينت عشرة أيام‏.‏

ثم في يوم الأربعاء خامس شهر رمضان خلع الأمير قاني باي الحمزاوي على القاضي جمال الدين يوسف البساطى باستقراره في حسبة القاهرة عوضًا عن القاضي صدر الدين بن العجمي‏.‏

وكان سبب ولايته أنه طالت عطلته سنين فتذكر الأمير ططر صحبته فكتب لقاني ثم في ثامن شهر رمضان قدم الخبر إلى الديار المصرية بخلع الملك المظفر وسلطنة الملك الظاهر ططر‏.‏

وأما السلطان الملك الظاهر ططر فإنه سار بعساكره إلى جهة الديار المصرية إلى أن نزل بمنزلة الصالحية في يوم الاثنين أول شوال فخرج الناس إلى لقائه وقد تزايد سرور الناس بقدومه‏.‏

ثم ركب من الصالحية وسار إلى أن طلع إلى قلعة الجبل في يوم الخميس رابع شوال وحملت القبة والطير على رأسه‏.‏

حملها الأمير جاني بك الصوفي أتابك العساكر‏.‏

ولما طلع إلى القلعة أنزل الملك الظاهر ططر الملك المظفر أحمد وأمه بالقاعة المعلقة من دور القلعة‏.‏

ثم في يوم خامس شوال خلع السلطان الملك الظاهر ططر على الطواشي مرجان الهندي الخازندار باستقراره زمامًا عوضًا عن الطواشي كافور الرومي الشبلي الصرغتمشي بحكم عزله‏.‏

ثم في يوم الاثنين ثامن شوال ابتدأ السلطان بعرض مماليك الطباق وأنزل منهم جماعة كثيرة إلى إصطبلاتهم من القاهرة‏.‏

ثم في يوم الاثنين خامس عشره استدعى السلطان الشيخ ولي الدين أحمد ابن الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي الشافعي وخلع عليه باستقراره قاضي قضاة الشافعية بالديار المصرية بعد موت قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقيني فنزل العراقي إلى داره في موكب جليل بعد أن اشترط على السلطان أنه لا يقبل شفاعة أمير في حكم فسر الناس بولايته‏.‏

وفي يوم الاثنين ثاني عشرين شوال ابتدأ بالسلطان الملك الظاهر ططر مرض موته وأصبح ملازمًا للفراش‏.‏

واستمر في مرضه والخدمة تعمل بالدور السلطانية ويجلس السلطان وينفذ الأمور ويعلم على المناشير وغيرها‏.‏

وأنعم في هذه الأيام على الأمير كزل العجمي الأجرود الذي كان ولي حجوبية الحجاب في الدولة الناصرية وعلى الأمير سودون الأشقر الذي كان ولي في دولة المؤيد رأس نوبة النوب ثم أمير مجلس كانا منفيين بقرية الميمون من الوجه القبلي بحكم أنه يكون كل واحد منهم أمير عشرين فارسًا فدخلا إلى الخدمة السلطانية بعد ذلك فى كل يوم وصارا يقفان من جملة أمراء الطبلخانات والعشرات ومقدمو الألوف جلوس بين يدي السلطان‏.‏

واستمر السلطان على فراشه إلى يوم الثلاثاء أول ذي القعدة فنصل السلطان من مرضه ودخل الحمام وخلع على الأطباء وأنعم عليهم ودقت البشائر لذلك وتخلقت الناس بالزعفران‏.‏

ثم في ثالث ذي القعدة خلع السلطان على دواداره الأمير فارس باستقراره في نيابة الإسكندرية عوضًا عن الأمير قشتم المؤيدي بحكم عزله وقد حضر قشتم المذكور إلى القاهرة وطلع إلى الخدمة ثم أمر السلطان فقبض على الأمير قشتم المذكور وعلى الأمير قاني باي الحمزاوي نائب الغيبة وقيدا في الحال وحملا إلى ثغر الإسكندرية فسجنا بها‏.‏

ثم في يوم الاثنين سابع ذي القعدة خلع السلطان على عبد الباسط بن خليل بن إبراهيم الدمشقي ناظر الخزانة باستقراره ناظر الجيوش المنصورة بعد عزل القاضي كمال الدين بن البارزي ولزومه داره‏.‏

وخلع السلطان أيضًا على موقعه القاضي شرف الدين محمد ابن القاضي تاج الدين عبد الوهاب بن نصر الله باستقراره في نظر أوقاف الأشراف ونظر الكسوة ونظر الخزانة عوضًا عن عبد الباسط المذكور‏.‏

وكان الملك الظاهر أراد تولية شرف الدين المذكور وظيفة نظر الجيش فسعى عبد الباسط فيها سعيًا زائدًا حتى وليها‏.‏

ودخل السلطان في هذه الأيام إلى القصر السلطاني وعمل الخدمة به‏.‏

ثم انتكس السلطان في يوم الخميس عاشر ذي القعدة ولزم الفراش ثانيًا وانقطع بالدور السلطانية وعملت الخدمة غير مرة‏.‏

فلما كان يوم الجمعة خامس عشرينه عزل القاضي ولي الدين العراقي نفسه عن القضاء لمعارضة بعض الأمراء له في ولاية القضاء بالأعمال‏.‏

ثم في سادس عشرين ذي القعدة رسم السلطان بالإفراج عن أمير المؤمنين المستعين بالله العباس من سجنه بثغر الإسكندرية وأن يسكن بقاعة في الثغر المذكور ويخرج لصلاة الجمعة بالجامع الذي بالثغر ويركب حيث يشاء وأرسل إليه فرسًا بسرج ذهب وكنبوش زركش وبقجة قماش ورتب له على الثغر في كل يوم ثمانمائة درهم لمصارف نفقته فوقع ذلك من الناس الموقع الحسن‏.‏

واستهل ذو الحجة يوم الخميس والسلطان في زيادة ألم من مرضه ونموه والأقوال مختلفة في أمره والإرجاف بمرضه يقوى‏.‏

فلما كان يوم الجمعة ثاني ذي الحجة استدعى السلطان الخليفة والقضاة والأمراء وأعيان الدولة إلى القلعة وقد اجتمع بها غالب المماليك السلطانية فلما اجتمعوا عند السلطان كلم الخليفة والأمراء في إقامة ابنه في السلطنة بعده فأجابوه إلى ذلك فعهد إلى ابنه محمد بالملك وأن يكون الأمير جاني بك الصوفي هو القائم بأمره ومدبر مملكته وأن يكون الأمير برسباي الدقماقي لالا الملطان والمتكفل بتربيته وحلف الأمراء على ذلك كما حلفوا لابن الملك المؤيد شيخ‏.‏

ثم أذن السلطان لقاضي القضاة ولي الدين العراقي أن يحكم وأعيد إلى القضاء‏.‏

وانفض الموكب ونزل الناس إلى دورهم وقد كثر الكلام بسبب ضعف السلطان وأخذ الناس وأعيان وثقل السلطان في الضعف وأخذ من أواخر يوم السبت ثالثه في بوادر النزع إلى أن توفي ضحوة نهار الأحد رابع ذي الحجة من سنة أربع وعشرين وثمانمائة فاضطرب الناس ساعة ثم سكنوا عندما تسلطن ولده الملك الصالح محمد حسبما يأتي ذكرة‏.‏

ثم أخذ الأمراء في تجهيز الملك الطاهر ططر فغسل وكفن وصلي عليه وأخرج من باب السلسلة وليس معه إلا نحو عشرين رجلًا لشغل الناس بسلطنة ولده‏.‏

وساروا به حتى دفن بالقرافة من يومه بجوار الإمام الليث بن سعد رضي الله عنه‏.‏

ومات وهو في مبادئ الكهولية‏.‏

وكانت مدة تحكمه منذ مات الملك المؤيد شيخ إلى أن مات أحد عشر شهرًا تنقص خمسة أيام منها مدة سلطنته أربعة وتسعون يومًا وباقي ذلك أيام أتابكيته‏.‏

قال المقريزي في تاريخه عن الملك الظاهر ططر‏:‏ وكان يميل إلى تدين وفيه لين وإغضاء وكرم مع طيش وخفة‏.‏

وكان شديد التعصب لمذهب الحنفية يريد أن لا يدع من الفقهاء غير الحنفية‏.‏

وأتلف في مدته مع قلتها أموالًا عظيمة وحمل الدولة كلفًا كثيرة أتعب بها من بعده‏.‏

ولم تطل أيامه لتشكر أفعاله أو تذم‏.‏

انتهى كلام المقريزي‏.‏

قلت ولعل الصواب في حق الملك الظاهر ططر بخلاف ما قاله المقريزي مما سنذكره مع عدم التعصب له فإنه كان يغض من الوالد كونه قبض على بعض أقاربه وخشداشيته بأمر الملك كان ططر ملكًا عظيمًا جليلًا عالي كريمًا عالي الهمة جيد الحدس حسن التدبير سيوسًا‏.‏

توثب على الأمور مع من كان أكبر منه قدرًا وسنًا ومع عظم شوكة المماليك المؤيدية شيخ وقوة بأسهم مع فقر كان به وإملاق‏.‏

فلا زال يحسن سياسته ويدبر أموره ويخادع أعداءه إلى أن استفحل أمره وثبت قدمه وأقلب دولة بدولة غيرها في أيسر مدة وأهون طريقة‏.‏

كان تارة يملق هذا وتارة يغدق على هذا وتارة يقرب هذا ويظهره على أسراره الخفية كل ذلك وهو في إصلاح شأنه في الباطن مع من لا يقربه في الظاهرة فكان حاله مع من يخافه كالطبيب الحافق الذي يلاطف عدة مرضى قد اختلف داؤهم فينظر كل واحد ممن يخشى شره فإن كان شهمًا رقاه إلى المراتب العلية وأوعده بأضعاف ذلك وإن كان طماعًا أبذل إليه الأموال وأشبعه حتى إنه دفع لبعض المماليك المؤيدية الأجناد في دفعات متفرقة في مدة يسيرة نحو عشرة آلاف دينار وإن كان شهمًا رغبته الأمر والنهي ولاه أعظم الوظائف كما فعل بالأمير علي باي المؤيدي والأمير تغري بردي المؤيدي المعروف بأخي قصروه ولى كلا منهما أجل وظيفة بديار مصر فأقر علي باي في الدوادارية الكبرى دفعة واحدة من إمرة عشرة وأقر تغري بردي في الأمير آخورية الكبرى دفعة واحدة ومع هذا لم يتجن عليهما أبدًا بل صار معهما فيما أراداه يعطي من أحبا ويمنع من أبغضا حتى إن تغري بردي المذكور وسط الأمير راشد بن أحمد ابن بقر خارج باب النصر ظلمًا لما كان في نفسه منه فلم يسأله ططر عن ذنبه كل ذلك لكثرة دهائه وعظيم احتماله ولم يكن فعله هذا مع علي باي وتغري بردي فقط بل مع غالب أشرار المؤيدية‏.‏

هذا وهو يقرب خشداشيته الظاهرية برقوق واحدًا بعد واحد يقصد بذلك تقوية أمره في الباطن فأطلق مثل جانبك الصوفي ومثل بيبغا المظفري ومثل قجق العيساوي‏.‏

كل ذلك وهو مستمر في بذل الأموال والإقطاعات لمن تقدم ذكرهم حتى إنه كلمه بعض أصحابه سرًا بعد عوده من دمشق فيما أتلفه من الأموال فقال‏:‏ يا فلان أتظن أن الذي فرقته راح من حاصلي جميعه في قبضتي أسترجعه في أيسر مدة إلا ما أعطيته للفقهاء والصلحاء فمن يكن فيه طيش وخفة لا يطيق هذا الصبر ولو تلفت روحه‏.‏

وكان مقدامًا جريئًا على الأمور بعدما يحسب عواقبها شهمًا يحب التجمل كانت مماليكه أيام إمرته مع فاقته أجل من جميع مماليك رفقته من الأمراء فيهم الناصرية والجمكية والنوروزية وغيرهم‏.‏

ولما حصل له ما أراد وصفا له الوقت ووثب على ملك مصر أقام له شوكة وحاشية من خشداشيته ومماليكه في هذه الأيام القليلة لم ينهض بمثلها من جاء قبله ولا بعده أن ينشىء مثلها في طول مملكته وهو أنه أعطى لصهره البدري حسن بن سودون الفقيه إمرة طبلخاناه ثم نقله إلى تقدمة ألف بالديار المصرية ولم يكن قبلها من جملة مماليك السلطان ولا من أولاد الملوك فإن والده سودون الفقيه مات بعد سنة ثلاثين جنديًا وكذا فعل مع فارس داواداره أنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف ونيابة الإسكندرية ومع جماعة أخر قد تقدم ذكرهم فهذا مما يدل على قوة جنانه وإقدامه وشجاعته فإنه أنشأ هذا كله في مدة سلطنته وهي ثلاثة أشهر وأربعة أيام‏.‏

وأنا أقول‏:‏ إن مدة سلطنته كانت ثمانية عشر يومًا وهي مدة إقامته بمصر وباقي ذلك مضى في سفره ومرض موته‏.‏

وكان يحب مجالسة العلماء والفقهاء وأرباب الفضائل من كل فن وله اطلاع جيد ونظر في فروع مذهبه ويسأل في مجالسه الأسئلة المفحمة المشكلة مع الإنصاف والتواضع ولين الجانب مع جلسائه وأعوانه وخدمه‏.‏

وكان يحب إنشاد الشعر بين يديه لا سيما الشعر الذي باللغة التركية فإنه كان حافظًا له ولنظامه ويميل إلى الصوت الحسن ولسماع الوتر مع عفته عن سائر المنكرات قديمًا وحديثًا من المشارب‏.‏

وأما الفروج فإنه كان يرمى بمحبة الشباب على ما قيل‏.‏

والله أعلم بحاله‏.‏

ومع قصر مدته انتفع بسلطنته سائر أصحابه وحواشيه ومماليكه فإن أول ما طالت يده رقاهم وأنعم عليهم بالأموال والإقطاعات والوظائف والرواتب‏.‏

قيل إنه أعطى الشيخ شمس الدين محمدًا الحنفي في دفعة واحدة عشرة آلاف دينار وأوقف على زاويته إقطاعًا هائلًا‏.‏

وتنوعت عطاياه لأصحابه على أنواع كثيرة وأحبه غالب الناس لبشاشته وكرمه‏.‏

وأظنه لو طالت مدته أظهر في أيامه محاسن ودام ملكه سنين كثيرة لكثرة عطائه‏.‏

فإنه يقال في الأمثال وهو من الجناس الملفق‏:‏ المتقارب إذا ملك لم يكن ذاهبة فدعه فدولته ذاهبة قلت‏:‏ وهو ثاني سلطان ملك الديار المصرية ممن له ذوق في العلوم والفنون والآداب ومعاشرة الفضلاء والأدباء والظرفاء من المماليك الذين مسهم الرق‏:‏ الأول الملك المؤيد شيخ والثاني ططر هذا‏.‏

غير أن الملك المؤيد طالت مدته فعلم حاله الناس أجمعون والملك الظاهر هذا قصرت مدته فخفي أمره على آخرين‏.‏

انتهت ترجمة الظاهر رحمه الله‏.‏

سلطنة الملك الصالح محمد ابن ططر السلطان الملك الصالح ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك الظاهر سيف الدين أبي الفتح ططر بن عبد الله الظاهري‏.‏

تسلطن بعد موت أبيه بعهد منه إليه في يوم الأحد رابع ذي الحجة سنة أربع وعشرين وثمانمائة‏.‏

وهو أنه لما مات أبوه حضر الخليفة المعتضد بالله أبو الفتح داود والقضاة والأمراء وجلسوا بباب الستارة من القلعة وطلبوا محمدًا هذا من الدور السلطانية فحضر إليهم فلما رآه الخليفة قام له وأجلسه بجانبه وبايعه بالسلطنة‏.‏

ثم ألبسوه خلعة السلطنة الجبة السوداء الخليفية من مجلسه بباب الستارة وركب فرس النوبة بشعار الملك وأبهة السلطنة وسار إلى القصر السلطاني والأمراء وجميع أرباب الدولة مشاة بين يديه حتى دخل إلى القصر السلطاني بقلعة الجبل وجلس على تخت الملك وقبل الأمراء الأرض بين يديه على العادة وخلع على الخليفة وعلى الأمير الكبير جاني بك الصوفي كونه حمل القبة والطير على رأسه ولقب بالملك الصالح‏.‏

وفي الحال دقت البشائر ونودي بالقاهرة ومصر بسلطنته وسنه يوم تسلطن نحو العشر سنين تخمينًا‏.‏

وأمه خوند بنت سودون الفقيه الظاهري وهي إلى الآن في قيد الحياة وهي من الصالحات الخيرات لم تتزوج بعد الملك الظاهر ططر‏.‏

والملك الصالح محمد هذا هو السلطان الحادي والثلاثون من ملوك الترك والسابع من الجراكسة وأولادهم‏.‏

وتم أمر الملك الصالح في السلطنة‏.‏

واستقر الأتابك جاني بك الصوفي مدبر مملكته وسكن بالحراقة من الإسطبل السلطاني بباب السلسلة وانضم عليه معظم الأمراء والمماليك السلطانية‏.‏

وأقام الأمير برسباي الدقماقي الدوادار واللالا أيضًا بطبقة الأشرفية بالقلعة في عدة أيضًا من الأمراء المقدمين أعظمهم الأمير طرباي حاجب الحجاب والأمير قصروه من تمراز رأس نوبة النوب والأمير جقمق العلائي نائب قلعة الجبل وأحد مقدمي الألوف المعروفة بأخي جركس المصارع والأمير تغري بردي المحمودي‏.‏

وأما الأمير بيبغا المظفري أمير سلاح والأمير قجق أمير مجلس والأمير سودون من عبد الرحمن وغيرهم من الأمراء فقد صاروا حزبًا وتشاوروا إلى من يذهبون إلى أن تكلم الأمير سودون من عبد الرحمن مع الأتابك جاني بك الصوفي فرد عليه الجواب بما لا يرضى فعند ذلك تحول سودون من عبد الرحمن ورفقته وصاروا من حزب برسباي وطرباي على ما سنذكر مقالتهما فيما بعد‏.‏

وباتوا الجميع بالقلعة وباب السلسلة مستعدين للقتال فلم يتحرك ساكن‏.‏

وأصبحوا يوم الاثنين خامس ذي الحجة وقد تجمع المماليك بسوق الخيل يطلبون النفقة عليهم على العادة والأضحية وأغلظوا في القول وأفحشوا في الكلام حتى كادت الفتنة أن تقوم فلا زال الأمراء بهم يترضونهم وقد اجتمع الجميع عند السلطان الملك الصالح حتى رضوا وتفرق جمعهم‏.‏

ولما كانت الخدمة بت الأتابك الصوفي بعض الأمور وقرىء الجيش وخلع على جماعة وهو كالخائف الوجل من رفقته الأمير برسباي والأمير طرباي وغيرهما‏.‏

وظهر في اليوم المذكور أن الأمر لا يسكن إلا بوقوع فتنة وبذهاب بعض الطائفتين لاختلاف الأراء واضطراب الدولة وعدم اجتماع الناس على واحد بعينه يكون الأمر متوقفًا على ما يرسم به وعلى ما يفعله‏.‏

على أن الأمير برسباي جلس في اليوم المذكور بين يدي جاني بك الصوفي وامتثل أوامره في وقت قراءة الجيش‏.‏

ثم بعد انتهاء قراءة الجيش والعلامة قام بين يديه على قدميه وشاوره في قضاء أشغال الناس على عادة ما يفعله الدوادار مع السلطان غير أن القلوب متنافرة والبواطن مشغولة لما سيكون‏.‏

ثم اثفض الموكب وبات كل أحد على أهبة القتال‏.‏

وأصبحوا يوم الثلاثاء سادسه في تفرقة الأضاحي فأخذ كل مملوك رأسين من الضأن‏.‏

ثم تجمعوا أيضًا تحت القلعة لطلب النفقة وأفحشوا في الكلام على عادتهم وترددت الرسل بينهم وبين الأتابك جاني بك الصوفي وطال النزاع بينهم حتى تراضوا على أن ينفق فيهم بعد عشرة أيام من غير أن يعين لهم مقدار ما ينفقه فيهم فانفضوا على ذلك وسكن الأمر من جهة المماليك السلطانية‏.‏

وانفض الموكب من عند الأتابك جاني بك الصوفي وطلع الأمير برسباي الدقماقي الدودار واللالا إلى طبقة الأشرفية هو والأمير طرباي والأمير قصروه‏.‏

وبعد طلوعهم تكلم بعض أصحاب جاني بك الصوفي معه لما رأوا أمره قد عظم في نزول الأمراء من القلعة إلى دورهم حتى يتم أمره وتنفذ كلمته وحسنوا له ذلك وقالوا له‏:‏ إن لم يقع ذلك وإلا فأمرك غير منتظم فمال الأتابك جاني بك الصوفي إلى كلامهم وكان فيه طيش وخفة فبعث في الحال إلى الأمير برسباي الدقماقي أن ينزل من القلعة هو والأمير طرباي حاجب الحجاب والأمير قصروه رأس نوبة النوب وأن يسكنوا بدورهم من القاهرة ويقيم الأمير جقمق العلائي عند السلطان لا غير‏.‏

فلما بلغ الأمراء ذلك أراد الأمير برسباي الإفحاش في الجواب فنهره الآمير طرباي وأسكته‏.‏

وأجاب برسباي بالسمع والطاعة وأنهم ينزلون بعد ثلاثة أيام‏.‏

وعاد الرسول إلى الأتابك جاني بك الصوفي بذلك فسكت ولم تسكت حواشيه عن ذلك وهم الأمير يشبك الجكمي الأمير آخور الكبير والأمير قرمش الأعور الظاهري وغيرهما وعرفوه أنهم يريدون بذلك إبرام أمرهم وألحوا عليه في أن يرسل إليهم بنزولهم في اليوم المذكور قبل أن يستفحل أمرهم فلم يسمع لكون أن الأمير طرباي نزل في الحال من القلعة مظهرًا أنه في طاعة الأمير الكبير جاني بك الصوفي وأن برسباي وقصروه وغيرهما في تجهيز أمرهم بعده إلى النزول فمشى عليه ذلك‏.‏

وكان أمر الأمير طرباي في الباطن بخلاف ما ظنه جاني بك الصوفي فإنه أخذ في تدبير أمره وإحكام الأمر للأمير برسباي الدقماقي ولنفسه‏.‏

واستمال طرباي في ذلك اليوم كثيرًا من الأمراء والمماليك السلطانية وساعده في ذلك قلة سعد جاني بك الصوفي من نفور الأمراء عنه وهو ما وعدنا بذكره من أمر سودون من عبد الرحمن مع جاني بك الصوفي‏.‏

وقد تقدم أن سودون من عبد الرحمن وغيره ممن تقدم ذكرهم صاروا حزبًا يحضر كل واحد منهم الخدمة ثم ينزل إلى داره ليرى ما يكون بعد ذلك‏.‏

ثم بدا لهم أن يكونوا من حزب جاني بك الصوفي كونه أتابك العساكر ومرشحًا إلى السلطنة بعد أن يكلموه في أمر فإن قبله كانوا من حزبه وإن لم يفعل مالوا إلى برسباي وطرباي والذي يكلموه بسببه هو الأمير يشبك الجكمي الأمير آخور فإنهم لما كانوا عند قرا يوسف بالشرق ثم جاءهم أمير يشبك المذكور أيضًا فارًا من الحجاز خوفًا من الملك المؤيد أكرمه قرا يوسف زيادة على هؤلاء وتعطفًا من الله والذين كانوا قبله عند قرا يوسف هم سودون من عبد الرحمن وطرباي وتنبك البجاسي وجاني بك الحمزاوي وموسى الكركري وغيرهم وكل منهم ينظر يشبك المذكور في مقام مملوكه كونه مملوك خشداشهم جكم فشق عليهم خصوصيته عند قرا يوسف وانفراده عنهم ووقعت المباينة بينهم ولم يسعهم يوم ذاك إلا السكات لوقته‏.‏

فلما مات قرا يوسف وبعده بقليل توفي الملك المؤيد قدموا الجميع على ططروهم في أسوأ حال فقربهم ططر وأكرمهم واختص أيضًا بيشبك المذكور اختصاصًا عظيمًا بحيث إنه ولاه الأمير آخورية الكبرى وعقد عقده على ابنته خوند فاطمة التي تزوجها الملك الأشرف برسباي فلم يسعهم أيضًا إلا السكات لعظم ميل ططر إليه‏.‏

فلما مات ططر انضم يشبك المذكور على وركب الأمير سودون من عبد الرحمن والأمير قرمش الأعور وهو من أصحاب جاني بك الصوفي وشخص آخر وأظنه بيبغا المظفري ودخلوا على جاني بك الصوفي بالحراقة من باب السلسلة ومروا في دخولهم على يشبك الأمير آخور وهو في أمره ونهيه بباب السلسلة فقام إليهم فلم يسلم عليه سودون من عبد الرحمن وسلم عليه قرمش والآخر‏.‏

وعندما دخلوا على الأتابك جاني بك الصوفي وسلموا عليه وجلسوا كان متكلم القوم سودون من عبد الرحمن فبدأ بأن قال‏:‏ أنا والأمراء نسلم عليك ونقول لك أنت كبيرنا ورأسنا وأغاتنا ونحن راضون بك فيما تفعل وتريد غير أن هذا الصبي يشبك مملوك خشداشنا جكم ليس هو منا وقد وقع عنه قلة أدب في حقنا ببلاد الشرق عند قرا يوسف ثم هو الآن أمير آخور كبير منزلته أكبر من منازلنا ونحن لا نرضى بذلك‏.‏

ثم إننا لا نريد من الأمير الكبير مسكه ولا حبسه لكونه انتمى إليه غير أننا نريد إبعاده عنا فيوليه الأمير الكبير بعض الأعمال بالبلاد الشامية ثم نكون بعد ذلك جميعًا تحت طاعة الأمير الكبير ونقول قد عاش الملك الظاهر ططر ونحن في خدمته لأننا قد مللنا من الشتات والغربة والحروب فيطمئن كل أحد على نفسه وماله ووطنه فلما سمع جاني بك الصوفي كلام سودون من عبد الرحمن وفهمه حنق منه واشتد غضبه وأغلظ في الجواب بكلام متحصله‏:‏ رجل ملك ركن إلي وانضم علي كيف يمكنني إبعاده لأجل خواطركم‏.‏

ثم أخذ في الحط على خشداشيته الظاهرية برقوق ومجيئهم لإثارة الفتن والشرور فسكت عند ذلك سودون‏.‏

وأخذ قرمش يراجعه في ذلك ويحذره المخالفة غير مرة مدلًا عليه كونه من حواشيه وهو لا يلتفت إلى كلامه‏.‏

فلما أعياه أمره سكت فأراد الآخر أن يتكلم فأشار عليه سودون من عبد الرحمن بالسكات فأمسك عن الكلام‏.‏

فتكلم سودون عند ذلك بباطن بأن قال‏:‏ يا خوند نحن ما قلنا هذا الكلام إلا نظن أن الأمير الكبير ليس له ميل إليه فلما تحققنا أنه من ألزام الأمير الكبير وأخصائه فنسكت عن ذلك ونأخذ في إصلاح الأمر بينه وبين الأمراء لتكون الكلمة واحدة بحيث إننا نصير في خدمته كما نكون في خدمة الأمير الكبير فانخدع جاني بك لكلامه وظنه على جليته وقال‏:‏ نعم أما هذا فيكون‏.‏

وقاموا عنه ورجع قرمش إلى حال سبيله وعاد سودون من عبد الرحمن إلى رفقته الأمراء وذكر لهم الحكاية برمتها وعظم عليهم الأمر إلى أن قال لهم‏:‏ تيقنوا جميعكم بأنكم تكونون في خدمة يشبك الجكمي إن أطعتم جاني بك الصوفي فإن يشبك عنده مقام روحه وربما إن تم له الأمر يعهد بالملك إليه من بعده‏.‏

فلما سمع الأمراء ذلك قامت قيامتهم ومالوا بأجمعهم إلى الأمير برسباي الدقماقي الدوادار الكبير والأمير طرباي حاجب الحجاب وقالوا‏:‏ هذا تركنا ونحن خشداشيته لأجل يشبك فما عساه يفعل معنا إن صار الأمر إليه لا والله لا نطيعه ولو ذهبت ولقد سمعت هذا القول من الأمير سودون من عبد الرحمن وهو يقول لي في ضمنه‏:‏ كان جاني بك الصوفي مجنونًا أقول له‏:‏ نحن بأجمعنا في طاعتك وقد مات الملك المؤيد بحسرة أن نكون في طاعته فيتركنا ويميل إلى يشبك الجكمي وهو رجل غريب ليس له شوكة ولا حاشية ‏"‏‏.‏

انتهى‏.‏

ولما خرج سودون من عبد الرحمن من عند جاني بك الصوفي طلب جاني بك الصوفي يشبك الأمير آخور المذكور وعرفه قول سودون من عبد الرحمن واستشاره فيما يفعل معهم وقد بلغه أن الأمراء تغيروا عليه فاتفق رأيهما على أنه يتمارض فإذا نزل الأمراء لعيادته قبض عليهم وافترقوا على ذلك‏.‏

وباتوا تلك الليلة وقد عظم جمع طرباي وبرسباي من الأمراء والمماليك السلطانية ولم ينضم على جانبي بك الصوفي غير جماعة من المماليك المؤيدية الصغار أعظمهم دولات باي المحمودي الساقي‏.‏

ولما أصبح يوم الأربعاء ثامن ذي الحجة أشيع أن الأمير الكبير جاني بك الصوفي متوعك فتكلم الناس في الحال بأنها مكيدة حتى ينزل إليه الأمير برسباي فيقبض عليه فلم ينزل إليه برسباي وتمادى الحال إلى يوم الجمعة عاشره وهو يوم عيد النحر‏.‏

فلما أصبح نهار الجمعة انتظر الأمير برسباي طلوع الأمير الكبير لصلاة العيد فلم يحضر ولم يطلع فتقدم الأمير برسباي وأخرج السلطان من الحريم وتوجه به إلى الجامع ومعه سائر الأمراء والمماليك فصلى بهم قاضي القضاة الشافعي صلاة العيد وخطب على العادة‏.‏

ثم مضى الأميران برسباي وطرباي بالسلطان إلى باب الستارة فنحر السلطان هناك ضحاياه من الغنم وذبح الأمير برسباي ما هناك من البقر نيابة عن السلطان‏.‏

ثم انفض الموكب ونزل الأمير طرباي إلى بيته هو وجميع الأمراء وذبحوا ضحاياهم وتوجه الأمير برسباي إلى طبقة الأشرفية‏.‏

وبينما هو ينحر ضحاياه بلغه أن الأمير الكبير جاني بك الصوفي لبس السلاح وألبس مماليكه ولبس معه جماعة كبيرة من المؤيدية وغيرهم فاضطرب الناس وأغلق باب القلعة ودقت الكؤوسات حربيًا‏.‏

وكان من خبر جاني بك الصوفي أنه لما تمارض لم يأت إليه أحد ممن كان أراد مسكه فأجمع رأيه حينئذ على الركوب وجمع له الأمير يشبك جماعة من إنياته من المماليك المؤيدية ومن أصحابهم‏.‏

حدثني السيفي جاني بك من سيدي بك البجمقدار المؤيدي وهو أعظم إنيات يشبك الجكمي المذكور قال‏:‏ لبسنا ودخلنا على الأتابك جاني بك الصوفي وعنده الأمير يشبك أمير آخور وكلمناه في أنه يقوم يصلي العيد ثم يلبس السلاح بعد الصلاة فقال‏:‏ صلاة العيد ما هي فرض علينا‏.‏

نتركها ونركب الآن قبل أن يبدأونا بالقتال‏.‏

قال‏:‏ قلت في نفسي‏:‏ بعيد أن ينجح أمر هذا‏.‏

قلت‏:‏ وقد وافق رأي جاني بك البجمقدار في هذا القول قول من قال‏:‏ صل واركب ما تنكب على أنه كان غتيمًا لا يعرف ما قلته فوقع لجاني بك الصوفي أنه لم يصل وركب فنكب‏.‏

ولما بلغ الأمير برسباي ركوب جاني بك الصوفي لبس الأمير برسباي وحاشيته آلة الحرب وتوجه إلى القصر السلطاني‏.‏

وترامت الطائفتان بالنشاب ساعة فلم يكن غير قليل حتى خرج الأمير طرباي من داره في عسكر كبير من الأمراء وعليهم السلاح ووقفوا تجاه باب السلسلة فلم يجدوا بباب السلسلة ما يهولهم من كثرة العساكر‏.‏

فأوقف الأمير طرباي بقية الأمراء وسار هو والأمير قجق أمير مجلس وطلعوا إلى باب السلسلة إلى الأمير الكبير جاني بك الصوفي على أن طرباي في طاعته ودخلا عليه وهو لابس وعنده الأمير يشبك الأمير آخور‏.‏

فأخذ طرباي يلومه على تأخره عن صلاة العيد مع السلطان وما فعله من لبس السلاح وأنه يقاتل من فإن الجميع في طاعة السلطان وطاعة الأمير الكبير‏.‏

فشكا الأمير الكبير جاني بك من الأمير برسباي الدقماقي من عدم تأدبه معه في أمور المملكة وأنه لا يمكن اجتماعنا أبدًا في بلد واحد‏.‏

فقال له طرباي‏:‏ السمع والطاعة‏.‏

كلم الأمراء في ذلك فإنهم في طاعتك‏.‏

فقال‏:‏ وأين الأمراء فقال‏:‏ ها هم وقوف تجاه باب السلسلة انزل أنت والأمير يشبك إلى بيت الأمير بيبغا المظفري أمير السلاح واجلس به واطلب الأمراء إلى عندك وكلمهم فيما تختار‏.‏

فأخذ يشبك يقول له‏:‏ كيف تنزل من باب السلسلة إلى بيت من ليس هو معنا فنهره الأمير طرباي فانقمع‏.‏

ولا زال يخادع الأمير جاني بك الصوفي حتى انخدع له وقام معه هو والأمير يشبك المذكور وركبا ونزلا من باب السلسلة وسارا إلى بيت الأمير بيبغا المظفري وهو تجاه مصلاة المؤمني المعرف ببيت الأمير نوروز وبه الآن جكم خال الملك العزيز فمشى وقد تحاوطه القوم‏.‏

قلت‏:‏ ما يفعل الأعداء في جاهل ما يفعل الجاهل في نفسه‏.‏

فلما وصل الأمير جاني بك الصوفي إلى باب الدار المذكورة ودخله بفرسه صاح الأمير أزبك المحمدي الظاهري‏:‏ هذا غريم السلطان قد دخل إلى عندكم احترصوا عليه‏.‏

وقبل أن يتكامل دخولهم أغلق الباب على جاني بك الصوفي ومن معه‏.‏

فعند ذلك زاغ بصر جاني بك الصوفي وشرع يترقق لهم ويقول‏:‏ المروءة افعلوا معنا ما أنتم أهله‏.‏

ودخلوا إلى الدار المذكورة وإذا بالأمير بيبغا المظفري عليه قميص أبيض ورأسه مكشوف وقد أخرج يده اليمنى من طوق قميصه وهو جالس على دكة صغيرة عند بوائك الخيل وبين يديه منقل نار عليه أسياخ من الفحم تشوى وبكل فيها بوزًا وعلى ركبته قوس تتري وعدة سهام‏.‏

فعندما رأى الأمراء قام إليهم على هيئته وقبل أن يصلوا إلى عنده ركس الأمير أزدمر شايا ثاني رأس نوبة وأخذ خوذة الأمير يشبك الأمير آخور من على رأسه فدمعت عينا يشبك‏.‏

فشق ذلك على الأمير بيبغا وأخذ قوسه بيده واستوفى عليه بفردة نشاب ليقتله فهرب أزدمر ودخل إلى بوائك الخيل بعد أن أوسعه بيبغا المذكور من السب والتوبيخ وهو يقول‏:‏ الملك إذا نكب تروح حرمته ولو مات حرمته باقية حتى سكن غضبه‏.‏

وأنزل جاني بك الصوفي ويشبك الأمير آخور فتقدم الأمراء وقيدوهما في الحال وأخذا أسيرين إلى القلعة‏.‏

وملك الأمير برسباي باب السلسلة من غير قتال ولا مانع فإن الأمير الكبير جاني بك الصوفي تركه ونزل من غير أمر أوجب نزوله على أنه لما ركب وأراد النزول مع طرباي قال له بعض مماليكه أو حواشيه‏:‏ يا خوند هذا باب السلسلة الذي تروح عليه الأرواح أين تنزل وتخليه فقال له‏:‏ لمصلحة نراها ‏"‏ فقال له‏:‏ فاتتك المصلحة بنزولك والله لا تعود إليه أبدًا فلم يلتفت إليه جاني بك وتمادى في غيه لقلة سعادته ولأمر سبق ولمقاساة نالته بعد هروبه من سجن الإسكندرية ونالت أيضًا خلائق بسبب هروبه من سجن الإسكندرية على ما يأتي ذكر ذلك في ترجمة الملك الأشرف برسباي إن شاء الله تعالى‏.‏